الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
المصادر بالنسبة للمؤرخ تشكل أهمية كبرى، وهذا المقال يوجه الباحثين في التاريخ إلى كيفية التعامل مع المصادر التاريخية المخالفة في المنهج الإسلامي
أهم مقتطفات المقال
ومن الغريب أن بعض الكتاب المعاصرين يعتمدون في مصادرهم التاريخية على التوراة والإنجيل وينقلون عنهما مباشرة ويعارضون بما فيهما الأحاديث الصحيحة في حين يعيبون على علماء التفسير وغيرهم رواية الإسرائيليات، وإدخالها في تفسير القرآن الكريم
هناك مجموعة من القواعد التي يلزم الباحث في التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي على وجه أخص أن يراعيها أثناء استقاء المعلومات التاريخية ونقدها والنظر في المصادر المخالفة للمنهج الإسلامي سواء من كتابات المستشرقين وغير المسلمين أو الإسرائليات، أو حتى المبتدعة، وهي:
1 – معرفة حدود النظر والأخذ من كتب غير المسلمين:
النظر إلى كتب غير المسلمين للأخذ منها يكون بحسب الموضوع، فإذا كان الموضوع متعلقًا بديانتهم، وهي ديانة وثنية، فإنه حينئذ لا بأس من الأخذ عنهم مع النظر والمقارنة، أما إذا كانوا من أهل الكتاب، وما يذكرونه عن ديانتهم ينسبونه إلى الله عز وجل أو إلى رسولهم أو غيره من رسل الله - عليهم الصلاة والسلام -، فإن هذا لا يقبل منهم، ولا يؤخذ عنهم؛ إلا وفقًا لضوابط رواية الإسرائيليات -كما سيأتي-، حتى لا ننسب إلى الله أو إلى رسول من رسله ما لم يقله.
2 - عدم التسليم لكل ما ورد في كتب اليهود والنصاري ومنها الإسرائيليات:
قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}[النساء:46]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 146]، وقال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة: 15]، وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}[المائدة: 41].
ففي هذه الآيات وغيرها دلالة واضحة على تحريف اليهود والنصارى لكتبهم المنزلة على رسلهم والواقع يثبت هذا التحريف، فإن الأناجيل قد دونت بعد رفع عيسى بزمن طويل، وهي اليوم مختلفة لا تتفق نسخة مع أخرى، وكذلك التوراة والتلمود دونها أحبار اليهود بعد موسى بأزمان متطاولة، واختلافاتها الكثيرة، وما تحويه من الكلام المنكر والقصص الفاسد والشرك بالله، من أكبر الأدلة على تحريفها مما يجعل كل عاقل يقطع بأن هذا ليس مما يرضاه الله ويحبه فضلًا عن أن يكون من كلامه سبحانه.
فالكتب السماوية السابقة لنزول القرآن منسوخة الشرائع والأحكام بهذه الشريعة الخاتمة، أما أخبارها وقصصها فهي مترددة بين الصواب والخطأ لثبوت وقوع التحريف والزيادة والنقص، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}[البقرة: 136]»[1].
ومن المعلوم أن القصص الإسرائيلي من أوسع القصص تفصيلًا لمعلومات تاريخية ولعهود وأزمان سحيقة، لكن بسبب وقوع التحريف فإنه لا يمكن الاعتماد على شيء من ذلك في الأمور الشرعية، أما الأخبار التاريخية مثل زيادة التفصيل لما ورد في القرآن أو السنة مجملًا أو الذي يغطي به النقص والفجوات في الوقائع التاريخية، ولا يترتب على ذلك تقرير حكم شرعي أو مخالفته؛ فإنه لا بأس من ذكر ذلك على سبيل المعرفة والبيان لا الاعتقاد كما قرر ذلك كثير من العلماء المحققين من أمثال الإمام ابن تيمية، والحافظ ابن كثير، فقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية الإسرائيليات على ثلاثة أقسام وهي كما يلي:
1- ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
2- ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، فذاك كذب.
3- ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا، فلا نصدق به، ولا نكذبه.
وهذا القسم الأخير تجوز حكايته لما ورد من الإباحة في ذلك، وغالب هذا مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يسأل مسلمي أهل الكتاب كـعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار عن بعض جزئيات الحوادث، وتفصيل مجملات القصص في القرآن بقدر ما يرون أنه مبين للقصة وموضح لما أجمل فيها ولا يخرج عن دائرة الجواز التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «حدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج، ومن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار»[2].
ومن هذا الباب أورد بعض الأئمة الكبار مثل هذه الأخبار والأحاديث الإسرائيلية في كتبهم وتفاسيرهم، لا ليثبتوا بها حكمًا شرعيًا، أو يعتقدوا صحتها، وإنما على سبيل المعرفة والاستشهاد وحكاية الأقوال وهم مع ذلك ينبهون في الغالب على ما فيها من الخطأ إما تصريحًا أو تلميحًا، وقد يسكتون أحيانًا لوضوح الأمر، ويقول الإمام ابن تيمية: «علماء الدين أكثر ما يحررون النقل فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه واجب القبول، وفيما ينقل عن الصحابة، وأما ما ينقل عن الإسرائيليات ونحوها، فهم لا يكترثون بضبطها، ولا بأحوال نقلتها؛ لأن أصلها غير معلوم، وغايتها أن تكون عن واحد من علماء أهل الكتاب أو من أخذه عن أهل الكتاب، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم»، فقد نهينا عن تصديق ما ينقل عن أهل الكتاب؛ إلا أن يكون مما يجب علينا تصديقه، مثل ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء وأممهم فإن ذلك يجب تصديقه مع الاحتراز في نقلته».
ومن الغريب أن بعض الكتاب المعاصرين يعتمدون في مصادرهم التاريخية على التوراة والإنجيل وينقلون عنهما مباشرة ويعارضون بما فيهما الأحاديث الصحيحة في حين يعيبون على علماء التفسير وغيرهم رواية الإسرائيليات، وإدخالها في تفسير القرآن الكريم، ولو فكروا لعلموا أن الأوائل رجعوا إلى نسخ أقدم وربما أوثق من النسخ التي رجعوا هم لها في العصر الحاضر.
بل إن بعضًا من الكتاب المعاصرين يعتمد على التوراة كمصدر تاريخي ويستبعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهذا متابعة للمنتج الاستشراقي الماكر الذي لا يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولا صدقه.
(انظر: مقال القرآن والسنة أهم المصادر التاريخية).
3- معرفة حدود الأخذ من كتب أصحاب الأهواء والمبتدعة:
من الأمور المهمة في المصادر معرفة الحدود التي تراعى عند الرجوع إلى كتب أصحاب الأهواء من الفرق التي ضلت الطريق، وفارقت الصراط المستقيم إما بدعوى تأويل غير سائغ، أو استجابة لشهوة وهوى، أو عن زندقة وكفر، وقد اعتنى العلماء بضبط مذاهب الفرق وأقوالهم؛ لكي تُعلم وتُعرف، حتى أفرد بعضهم ذلك بمؤلفات خاصة، مثل: أبي الحسن الأشعري[ت330]، في كتابه (مقالات الإسلاميين)، وأبي الحسين الملطي الشافعي[ت 377]، في كتابه (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)، وأبي محمد بن حزم [ت456]، في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، ومثل أبي الفتح الشهرستاني [ت 548] في كتابه (الملل والنحل) كما أن أصحاب الفرق أنفسهم قاموا بتدوين مذاهبهم ومعتقداتهم وأخبارهم وتراجم رجالهم وعلمائهم، ومناظراتهم وردودهم على المخالفين لهم، ومنهم من اشتغل بالتاريخ العام فدون الأخبار وصاغها وفقًا لمعتقده الديني ومذهبه السياسي، فأبرز مثالب خصومه وأخفى كثيرًا من جهودهم وحسناتهم.
ولأجل هذا فإنه لابد للمؤرخ المسلم أن يتعرف على مؤلف ما يرجع إليه من المصادر، فيتعرف على عقيدته واتجاهه السياسي والمذهبي؛ لأن هذه المعرفة تمكنه من التعامل مع النصوص التي يوردها ذلك المؤرخ بما تكوَّن لديه من خلفية عن اتجاهاته وآرائه، ثم يقارنها بغيرها مما عند أصحاب الفرق الأخرى، ومما عند الثقات العدول من المسلمين.
والموقف من كتب أصحاب الفرق والأهواء ينظر له من ثلاث زوايا هي بحسب موضوع الرواية، وهي:
1- ما كان متعلقًا بنقل حكم من أحكام الشريعة وروايته، فإن علماء أصول الحديث قد قرروا في كتبهم أن الرواية عن المبتدعة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: من كانت بدعته مكفرة مثل الروافض الذين يسبون أبا بكر وعمر ويكفرون الصحابة، ومثل طوائف الباطنية من قرامطة وإسماعيلية ونصيرية، وغيرهم من الزنادقة كالخرمية والحلولية والثنوية، فهؤلاء لا تقبل روايتهم ولا كرامة.
القسم الثاني: المبتدعة الذين لا تصل بدعتهم إلى الكفر والخروج من الملة، فمن كان منهم معروفًا بالكذب أو قلة الضبط فلا تقبل روايته، وهذا شرط في كل راوٍ مبتدعًا كان أو غير مبتدع، ومن كان مشهورًا بالورع والتقوى والضبط لما يرويه فتقبل روايته حتى وإن كان داعية لبدعة شريطة أن لا يكون ما يرويه مؤيدًا لبدعته، واحتجوا لهذا بإخراج البخاري في صحيحه لعمران بن حطان الخارجي مادح عبد الرحمن بن ملجم -قاتل علي بن أبي طالب- فهو من أكبر الدعاة إلى بدعته، ولكن لما عرُف بالورع والتقوى، وأنه لا يكذب أخرج الأئمة حديثه.
2- ما كان متعلقًا بالأخبار عن أهل السنة سواء في التاريخ العام أم في التراجم الشخصية، فهذا ينظر فيه إلى تعصب الراوي من عدمه، فمن لاحت عليه أمارات التعصب أسقط خبره؛ لأن الخصومة حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة وكما قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا
أما من لا يلحظ عليه التعصب وكان عدلًا في ذاته فيسبر خبره ويقارن بغيره من الأخبار وبالوجهة العامة للمجتمع الإسلامي.
3- روايتهم الأخبار عن أهل طائفتهم ومذهبهم، وهذا كالإقرار منهم فهو حجة عليهم خاصة حكاية أقوالهم ومذاهبهم، فهم أعرف ببعضهم بعضًا وبأصول مذهبهم ومنطلقاته الفكرية، وكما قيل في المثل: «من فمك أدينك».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
كتاب "مهارات الكتابة والتأليف" أحمد المنزلاوي.
واقرأ أيضًا:
القرآن والسنة أهم المصادر التاريخية
لمن نقرأ التاريخ؟
لماذا تاريخ الطبري؟
كيف تتعامل مع المصادر التاريخية المخالفة؟
قواعد مهمة في كتابة وعرض التاريخ 1/2
قواعد مهمة في كتابة وعرض التاريخ 2/2
التعليقات
إرسال تعليقك